سوريا- مسارات التصادم التركي-الإسرائيلي.. حروب وكالة، تقاسم نفوذ، أم صدام مباشر؟

مع مطلع شهر ديسمبر، تحديدًا في الثامن منه، دُشِّن فصل جديد في سجل العلاقات المعقدة بين تركيا وإسرائيل. طُويت صفحة امتدت لعقدين اتسما بـ "التعاون المتقطع والخصام المستمر"، خاصة خلال حقبة "الربيع العربي" المضطربة، لتتبدل الأوضاع إلى لحظة فارقة، بل صراع حاد بين قوتين إقليميتين لهما ثقلهما. أضحت العلاقة بين أنقرة وتل أبيب محط اهتمام سياسي مكثف، ومحور تركيز إعلامي واسع النطاق، تجاوز حدود العواصم الإقليمية وامتد إلى دوائر صنع القرار الدولي المعنية.
ينكبّ المحللون والخبراء على استكشاف خفايا هذه العلاقات المتشعبة، ساعين جاهدين لرصد مساراتها المستقبلية المحتملة، ووضع تصورات للسيناريوهات القادمة. هذا الاهتمام المتزايد لا يقتصر فقط على كوننا أمام دولتين لهما وزنهما وقوتهما، أو لامتلاك كل منهما شبكات دعم إقليمية ودولية راسخة، بل لأن سوريا، التي تمثل ساحة للصراع والتنافس المحتدم، تحتل مكانة "القلب النابض" في منطقة المشرق العربي، وامتدادًا إلى مساحات شاسعة من "الشرق الأوسط الكبير".
لأسباب جمة، وفي مقدمتها الوضع السوري المتأزم، انحرفت العلاقات التركية – الإسرائيلية عن مسار التعاون المعلن، الذي لطالما كان محفوفًا بالكثير من الشكوك والهواجس الدفينة، إلى مسار تصادم صريح، لا يُعرف على وجه اليقين كيف ستكون نهايته، أو لمن ستكون الكلمة الفصل في خاتمته.
ولكن قبل الخوض في تفاصيل معقدة حول "بناء السيناريوهات" المحتملة، فلنقم بجردة حساب سريعة للمصالح والأولويات المتضاربة لكلا الطرفين.
حسابات المصالح ومسار التصادم
يكمن في صلب المصالح الإسرائيلية العليا إضعاف سوريا، تمهيدًا لتقسيمها إلى دويلات وكيانات طائفية ومذهبية وإثنية متناحرة. هذا الحلم يراود "الآباء المؤسسين" لـ "دولة اليهود"، الذين رأوا أن بقاء إسرائيل وتكريس هيمنتها على المنطقة رهن بإعادة إنتاجها على هيئة "إمارات الطوائف والأقوام"، لتغدو معها يهود إسرائيل أكبر أقلية، أو واحدة من كبرى الأقليات، وتكتسب في سياقاتها الفكرة العنصرية و"المستعصية" حول "يهودية الدولة" "الشرعية" المنشودة و"الممكنة".
وفي سبيل تحقيق هذا الهدف الاستراتيجي، لا يهم من يحكم دمشق، طالما أنه ضعيف ومهزوز. ومؤخرًا، لم يعد مطلوبًا من حكام دمشق، أيًا كانت هويتهم وولاءاتهم، لعب دور "حرس الحدود"، بعد أن أوكلت نظرية الأمن القومي الإسرائيلي، في طبعاتها المحدثة، هذه المهمة للجيش والاستخبارات الإسرائيليين، شريطة إنجازها على "أرض العدو"، بعيدًا عن الحدود والجبهة الداخلية.
وما دامت إسرائيل قادرة –حسب رؤية قادتها- على إذكاء نار الفوضى في دول الجوار، و"مؤهلة" من وجهة نظرهم لإدارتها بالشكل الذي يخدم مصالحها، وما دام مفهوم "الاعتداء" و"انتهاك" الأجواء السورية، الذي ترسخ على مدار العقدين الماضيين، و"تقنن" بتفاهمات نتنياهو-بوتين (2015)، قد اتسع نطاقه بعد سقوط نظام الأسد الابن، ليشمل استباحة واحتلال أراضٍ سورية جديدة، وفرض مناطق وأحزمة أمنية تلامس مشارف دمشق، ومساحات واسعة من الحدود الجنوبية لسوريا.
من بين الأدوات المستخدمة لتحقيق هذا المبتغى، تبرز فكرة "حلف الأقليات"، التي ازدهرت مؤخرًا مع تنامي الهويات الثانوية المدمرة في سوريا. ويتضمن ذلك اللعب بالورقة الكردية، ومغازلة الأحلام القومية للأكراد، بهدف واضح هو تمزيق سوريا وابتزاز تركيا. فمن يمنع الفلسطينيين من حقهم في تقرير مصيرهم، لا يمكن أن يكون مدافعًا شرسًا عن حق شعب آخر (الأكراد) في تقرير مصيره.
في المقابل، تخشى أنقرة تداعيات "مبدأ الدومينو"، التي لن تقتصر على إضعاف دورها ونفوذها الإقليميين في سوريا وعبرها إلى جوارها، بل ستمتد لتطال العمق التركي ذاته. فإذا ما انفلت "جني" الطوائف والمذاهب والأقوام من قمقمه في سوريا، فسيصيب التركيبة الديموغرافية والجغرافية التركية بضرر بالغ، إن لم يكن على الفور، فعلى المديين المتوسط والبعيد. ولعل هذا يشكل التحدي الأكبر والأخطر الذي يواجه أنقرة، منذ سقوط الخلافة وقيام الجمهورية.
وتشعر تركيا، بأنها ومنذ نهاية عهد الأسد الابن، باتت ملزمة أخلاقيًا ومعنويًا، بتسهيل عملية انتقال سلس وآمن للبلاد بأكملها. فسورية الغارقة في فوضى الطوائف والصراعات الأهلية، ستصبح عبئًا ثقيلاً على تركيا، لا سندًا لها. وسوريا المقسمة والمنقسمة على ذاتها، لن تكون جسرها نحو دور قيادي لمحور عربي وإسلامي واسع، تعتقد القيادة التركية أنها الأجدر بتقلد زمام المبادرة فيه. وسوريا المختنقة بأزماتها الاقتصادية والاجتماعية، ستكون "بالوعة" لاستنزاف الفائض من القدرات التركية، بدل أن تكون داعمًا ومعينًا لها، وهي ترتقي سلم الاقتصادات الناشئة، وتطمح إلى دخول نادي العشر الكبار، بعد أن وطدت مكانتها في "نادي العشرين".
حسابات تركيا وقراءاتها لأهمية سوريا في استراتيجيتها الإقليمية، ليست بدورها غائبة عن "الوعي الإسرائيلي" الأمني والاستراتيجي. فتل أبيب تجهر بمخاوفها من قيام "قوس سني"، يحل محل "الهلال الشيعي" الذي اعتبرته تهديدًا وجوديًا، ونجحت في تفكيكه في أبرز مفاصله وحلقاته، عقب تداعيات "الطوفان" وما تلاه.
هو قوسٌ، ذو طابع "إخواني" مضاف إليه نكهتان متعارضتان: سلفية محافظة من جهة، و"إسلام مدني" تجسده تجربة "العدالة والتنمية" من جهة ثانية.. مزيج يصعب التكهن بصورته ومكوناته ومآلاته.
وفي آخر "تقديرات الموقف" المتداولة في إسرائيل، فإن هذا "القوس" قد يمتد من تركيا مرورًا بسوريا، عبر "إخوان" الأردن و"سُنّة" لبنان، وصولًا إلى غزة وفلسطين. ولهذا استدعى الأمر إدراج مسألة العلاقة مع تركيا على جداول أعمال اجتماعات "الكابينت الأمني"، ومنحها مكانة متقدمة على سلم أولويات التحالف الاستراتيجي مع واشنطن.
نحن إذن، إزاء مسار تصادمي بين أنقرة وتل أبيب، في سوريا وعليها. لكن التفكير الهادئ، بعيدًا عن ضجيج التصريحات النارية، وتبادل الاتهامات الحادة، يقود إلى استنتاج مفاده أن أحد السيناريوهات الثلاثة التالية، سيحكم مستقبل العلاقات بين البلدين، ويحدد مساراتها:
السيناريو الأول: "حروب الوكالة"
بمعنى أن ينخرط البلدان في سلسلة من الحروب المتنقلة، غير المباشرة، وعبر وكلاء. كأن تواصل إسرائيل دعمها لميليشيات متمردة على دمشق، وتوفير شبكات أمان لها: (مناطق آمنة، مناطق محظورة على الجيش السوري، مناطق حظر جوي، مناطق خالية من الدفاعات الجوية.. إلخ). وتقابلها أنقرة بدعم ميليشيات مناهضة، كما حدث، وقد يتكرر، في الشمال الغربي، من معارك بين "قسد" وفصائل "الجيش الوطني" المدعومة من تركيا.
وهو سيناريو قابل للتكرار في مناطق أخرى، ومن ضمنها الجنوب (وثمة مؤشرات دالة على ذلك)، وربما تحت شعارات "مقاومة الاحتلال"، ومن يتماهى مع أهدافه ومراميه.
في اعتقادي أن تركيا تعطي الأولوية لبناء جيش سوري جديد، من خلال تدريبه وتسليحه وتحت إشرافها. وإلى أن يتحقق ذلك، إن تحقق، فليس ثمة بديل عن الاعتماد على قوى "لا دولاتية" (Non-State Actors)، باعتبارها "قوات رديفة"، تعمل بشكل متصل ومنفصل مع نواة الجيش السوري الجديد، وتوفر لأنقرة أولًا، ودمشق في المقام الثاني، إمكانية التنصل من أفعالها إذا اقتضت الضرورة، في تكرار (قص ولصق) لتجارب مماثلة شهدتها دول عدة في المنطقة.
لا يستبعد هذا السيناريو، بل يملي على أنقرة ودمشق، التوسع في نشر القوات والقواعد العسكرية التركية على الأراضي السورية. ثمة تفاهمات أولية في هذا الشأن، وثمة جهود استطلاعية تجري على قدم وساق في وسط سوريا (المطارات الثلاثة: حماة، T4، وتدمر). وثمة رسائل إسرائيلية، بالنار، موجهة إلى دمشق وأنقرة، مفادها أن أمرًا كهذا، لن يكون مقبولًا على إسرائيل، وأنها ماضية في مسعاها لجعله غير مقبول على واشنطن كذلك.
السيناريو الثاني: "تقاسم النفوذ"
بمعنى أن يميل البلدان إلى خيار التفاوض والدبلوماسية، بهدف الوصول إلى تقاسم السيطرة والنفوذ، ورسم الخطوط الحمراء والخضراء والصفراء على الخريطة السورية، كبديل عن التقسيم المرفوض والمحفوف بأشد المخاطر، وتجنبًا لحرب مباشرة لا يرغب فيها أحد.
يستلهم هذا السيناريو ما حدث بين إسرائيل ونظام الأسد الأب في لبنان، مع اندلاع الحرب الأهلية ودخول الجيش السوري نصرة للقوات والجبهة اللبنانيتين آنذاك (1975-1976). حين "احترمت" دمشق خطوط إسرائيل الحمراء في جنوب لبنان، والتزمت بها.
مثل هذا السيناريو، يستدعي تدخل وسيط ذي ثقل، كالولايات المتحدة، حليفة إسرائيل وصديقة تركيا. وليس بالضرورة أن يتخذ "سيناريو التقاسم" شكل اتفاقات رسمية مبرمة، بل يكفي التوصل إلى "تفاهمات شفهية" برعاية أمريكية حتى يصبح "التقاسم" ممكنًا. مثل هذه التفاهمات "صمدت" في أزمنة وأمكنة أخرى، أكثر مما فعلت الاتفاقات المكتوبة.
قد يشتمل سيناريو كهذا، في أحسن الأحوال، على انسحابات إسرائيلية من أراضٍ سورية محتلة (مؤخرًا)، وقد يعيد الحياة لاتفاقية فك الارتباط لعام 1974، ولكن بشروط جديدة، لصالح إسرائيل، أولًا لجهة احتفاظها بنقاط "حاكمة" على قمم الجبال ومساقط المياه، وثانيًا، لجهة ضمان دور أمني إسرائيلي أكبر، في كل ما يتصل بإجراءات المراقبة و"التدخل السريع" حال بروز "تهديد أمني"، كما هو الحال في التعامل الأميركي-الإسرائيلي مع اتفاق 27 نوفمبر/ تشرين الثاني في لبنان، وما رافقه من تفاهمات ثنائية أميركية- إسرائيلية، نصت على ما كان صعبًا النص عليه في الاتفاق الأصلي.
إن رجحت احتمالات التقدم على خط أنقرة-واشنطن-تل أبيب، فليس مستبعدًا على الإطلاق، أن تضطلع تركيا بدور "الوسيط" بين سوريا وإسرائيل، وهو دور تفضله الدبلوماسية التركية عادة، وترغب في القيام به، في مختلف الدول التي تشهد أزمات مفتوحة. وهو دور مارسته أنقرة من قبل، زمن بشار الأسد، وقبيل اندلاع الأزمة السورية بوقت قصير.
من المستبعد تمامًا، أن يكون الجولان السوري المحتل مدرجًا على جدول أعمال التفاوض بين دمشق وتل أبيب. هذا ليس خيارًا إسرائيليًا، لا سيما بعد أن أقرّ الرئيس الأميركي في ولايته الأولى بضم "الهضبة" إلى السيادة الإسرائيلية.
لكن ذلك، لا يمنع من التوصل إلى تفاهمات جديدة، أو إحياء اتفاقات قديمة، على الأقل لتهدئة الأوضاع على الحدود السورية – الإسرائيلية، ووقف الاعتداءات الصارخة على السوريين، أرضًا وبشرًا ومقدرات.
قد يكون هذا هو سقف التفاوض الممكن في المدى المنظور، مع الإشارة إلى أن "المفاوضات ذاتها"، قد تكون مطلوبة من دمشق، لكسر طوق العزلة المفروض عليها، والتخفيف من العقوبات الدولية، وإعادة دمج سوريا في النظام الاقتصادي والمالي العالمي، والاعتراف بشرعية الانتقال والإدارة الجديدة. لقد رأينا ذلك وجربناه، في تجارب عربية عديدة، حيث كان التفاوض مع إسرائيل، وأحيانًا التطبيع معها، مدخلًا لتحقيق أهداف أخرى.
السيناريو الثالث: الصدام المباشر
وهو السيناريو الأقل احتمالًا، والناجم عن فشل "مسار التقاسم"، لأسباب تتعلق أساسًا بالعقيدة التوسعية التي تسيطر على دوائر صنع القرار في تل أبيب، والتي تعيش هذه الأيام ذروة نشوة القوة والهيمنة، بالتزامن مع تصاعد وتيرة "حروب الوكالة" المتنقلة بين الجانبين.
مثل هذا السيناريو، سيضع دولة "أطلسية" وازنة كتركيا، في مواجهة أهم حليف للغرب والولايات المتحدة، إسرائيل. فهما دولتان من العيار الثقيل، ولا تشبه الحرب المباشرة بينهما أيًا من الحروب التي شهدتها المنطقة في العقود الماضية.
ليس من المتوقع، الانزلاق إلى سيناريو كهذا في المدى المنظور، فدونه أولويات أخرى يجب إنجازها أولاً، وعلى رأسها ضرب إيران، وهي أولوية متقدمة من وجهة نظر إسرائيل، وتتفوق على "الخطر التركي الزاحف". وأقل ما تحتاجه أنقرة، هو الانخراط في حرب مع عدو بحجم إسرائيل وتحالفاتها الغربية.
لكننا نعيش في زمن مليء بالمفاجآت التي تتجاوز حدود التصور والخيال، والتي لم يكن ليصدقها أحد قبل أيام من وقوعها. فزعيمة الغرب وقائدة "الناتو" والدولة العظمى، لم تعد تتردد في التلويح بخيار القوة لاحتلال أراضٍ تتبع لدولة عضو في "الأطلسي": غرينلاند/ الدانمارك، أو السعي لضم دولة (قارة) مجاورة (كندا)، أو السطو على خليج المكسيك وقناة بنما.
خلاصة القول تكمن في مقولة لينين الشهيرة قبل أكثر من مائة عام: "النظرية رمادية، أما شجرة الحياة فدائمة الاخضرار". فالحياة الواقعية في سوريا وما حولها، تحمل دائمًا الجديد والمفاجئ. وقد يكون السيناريو الواقعي الذي سينظم المسار السوري، مزيجًا بين السيناريوهين الأول والثاني، بمعنى أن تتوالى "حروب الوكالة" لتمهيد الطريق أمام الصفقات والتسويات. فالدول التي تدفع عادة باتجاه "حافة الهاوية"، تحرص في اللحظات الأخيرة على الابتعاد عنها خطوة أو خطوتين، خشية الانزلاق إلى قاعها المظلم.
وهذا ما يبدو الأرجح في الحالة التركية – الإسرائيلية، لكن احتمالية الانزلاق، تظل واردة مع ذلك. وكم من الأمم والدول، انزلقت إلى حروب لم تسع إليها ولم تكن تريدها.